الاثنين، 10 ديسمبر 2012

بناء نظام نزاهة وطني


بناء نظام نزاهة وطني
من أجل بناء نظام نزاهة وطني لا بد من توافر مقومات رئيسية في أي مجتمع، وأهمها: سيادة القانون وترسيخ مفهوم الدولة القانونية القائمة على الفصل بين السلطات مع وجود دستور مكتوب، وخضوع الحكام للقانون، وأهمية الانتخابات الدورية، ووجود التعددية، والمنافسة والمشاركة السياسية. وهي التي تشكل في مجملها الأسس العامة للبناء السليم لأعمدة الدولة، والتي تظهر على شكل تعدد حزبي وتداول على السلطة بين الأحزاب المتنافسة، وخضوع القرارات السياسية للتفاعل السياسي بين القوى السياسية المختلفة، والحل الوسط، واحترام رأي الأغلبية، والمساواة السياسية بمنح صوت لكل مواطن. وعلى الرغم من الاختلاف بين مجتمع وآخر في طبيعة بنية نظامه وطبيعة العناصر التي تمثل أركان البناء في نظام النزاهة الوطني، فإن هناك عددًا من الأعمدة المتعارف عليها التي تمثل نموذجًا لمختلف المجتمعات الديمقراطية، وهي:
1-   السلطة التنفيذية: تمثل السلطة التنفيذية أبرز مؤسسات النظام السياسي لما  تتمتع  به من إمكانات، ولكي تكون ركنًا فاعلا في نظام النزاهة الوطني ينبغي أن تقوم على الأسس التالية: احترام مبدأ الفصل المتوازن للسلطات، والتداول السلمي للسلطة، وعدم طغيان هذه السلطة على بقية السلطات. ومن المعروف أن طغيان السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية يعتبر السمة البارزة لأنظمة الحكم في أقطار العالم العربي، الأمر الذي يعطل مبدأ المحاسبة الأفقية ويقيم نظامًا شكليًا من المحاسبة العمودية مما يشجع على شيوع الفساد بمظاهره المختلفة. ولكي تكون السلطة التنفيذية عمودًا فعالا من أعمدة النزاهة الوطنية فإنه لا بد من اعتماد مبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وفي المقدمة منها مبدأ فصل السلطات ومبدأ تداول السلطة بطرق سلمية، وبالتالي ضمان إجراء الانتخابات في أجواء حرة ونزيهة.
2-   السلطة التشريعية: يعكس البرلمان المنتخب في انتخابات حرة دورية ونزيهة إرادة الأمة، وتمثل هذه المؤسسة ركنًا أساسيًا من أركان أي نظام وطني للنزاهة استنادًا إلى دورها الفعال في المساءلة والرقابة والتشريع، مما يعد ضمانًا للشفافية ومكافحة الفساد. كما يؤدي أعضاء البرلمان بوصفهم ممثلي الأمة دورًا محوريًا في مكافحة الفساد. وحتى تقوم المؤسسة التشريعية بدورها المطلوب في نظام النزاهة الوطني ينبغي أن يتم ذلك في ظل نظام ديمقراطي حقيقي، وأن تأتي من خلال انتخابات دورية نزيهة، وفي ظل نظام سياسي يحترم مبدأ فصل السلطات وتوازنها وعدم طغيان سلطة على أخرى. ولكي تكون السلطة التشريعية عمودًا فعالا من أعمدة النزاهة الوطنية لا بد من قيام المجلس التشريعي بسن قوانين واضحة تضمن عدم تضارب المصالح بين النواب والسلطة التنفيذية، وتحول دون قيام أعضاء المجلس بالإخلال بدورهم والتزاماتهم، وبما يكفل الرقابة والمساءلة والشفافية على أعمال الحكومة. كما لا بد من إقرار قوانين الذمة المالية للعاملين في الشأن العام، بمن فيهم أعضاء البرلمان، مما يسمح بمراقبة دخلهم والذمة المالية لهم ولأفراد أسرهم منعًا للإثراء غير المشروع. وحتى يكتمل عمل هذا الركن الأساسي من أركان نظام النزاهة الوطني لا بد من إتاحة الفرصة للجمهور وممثلي الرأي العام ومنظمات المجتمع المدني للاطلاع على تقارير اللجان المختصة المتعلقة بقضايا الشكاوى المقدمة من الجمهور أو بالتحقيقات التي تجريها عند متابعة قضايا الفساد.
3-   السلطة القضائية: يؤدي القضاء المستقل والنزيه دورًا مركزيًا في الرقابة على سلوك المؤسسات الحكومية والمسؤولين الحكوميين، ويمثل استقلال القضاء أيضًا معيارًا أساسيًا لمبدأ الفصل المتوازن بين السلطات في النظم الديمقراطية. ولكي تكون السلطة القضائية عمودًا فعالا من أعمدة النزاهة الوطنية لا بد من أن يكون للقضاء حق في مراجعة القرارات الإدارية الحكومية وأن يكون للقضاة قدرة على إصدار قرارات بما فيها قرارات ضد الحكومة دون تعرضهم للانتقام، سواء في قضايا مالية كبيرة أم في قضايا جنائية سياسية، ولا بد كذلك من ضمان نفاذ هذه القرارات القضائية. ويتطلب تحقيق هذه الأمور القدرة على اختيار القضاة دون الخضوع لنفوذ الحكومة، هذا النفوذ الذي يستطيع أن يتدخل في القرارات القضائية عندما يغيب استقلال القضاء. كما يعتمد وجود القضاء النزيه على مدى قدرة الجمهور نفسه على مساءلة القضاة وفق نظام مراجعة قضائية مضمونة سواء بالشكوى الإدارية لهيئات الرقابة والتفتيش أم بواسطة دعوى مساءلة القضاة، مما يتطلب وجود نظام إدارة عادل عبر التبليغات واستدعاء الشهود ودفع الكفالات ومدى حق الطعن بهذه الإجراءات.
4-   ديوان الرقابة المالية والإدارية: وهو ركن آخر من أركان نظام النزاهة الوطني، ويتولى هذا الديوان مسؤولية تدقيق سلوك المؤسسات العامة والعاملين فيها من حيث التزامها بالقانون وقواعد العمل المالي السليم بما فيها التدقيق في النفقات والإيرادات. ومن هنا فإن هذا الديوان يقوم بدور الرقيب على نزاهة استخدام المنصب أو الصلاحيات أو المال العام، فيما يتعلق بالجباية أو بالإنفاق وفقًا للأوجه المحددة في الموازنات المقرة من البرلمان. ومن الأمور الواجب توفرها في ديوان الرقابة لكي يكون عمودًا من أعمدة النزاهة أن تتسلم رئاسته شخصية مهنية محايدة لا تخضع لسلطة الحكومة، وأن يقدم تقاريره للمجلس التشريعي وينشرها للجمهور، وأن يكون رئيسه محصنًا من قضية العزل، وأن يكون الديوان قادرًا على إجراء تدقيق سنوي للحسابات المالية لمؤسسات الدولة بواسطة مدققي حسابات مستقلين، وأن يكون مسؤولا عن إجراء عمليات التدقيق هذه، إضافة إلى اقتفاء أثر الأصول لكي يصبح ممكنًا القيام بتقويم دوري للأصول لضمان بقاء الأصول التي تشتريها الدولة تحت سيطرتها إلى أن يتم التصرف بها كما ينبغي، إضافة إلى متابعة التقارير بانتظام بواسطة لجنة الموازنة والشؤون المالية أو أية هيئة أخرى مشابهة في المجلس التشريعي.
5-   ديوان الشكاوى: ويعنى هذا الديوان بالنظر في شكاوى الجمهور في كل ما يتعلق بالمس بمبادئ سيادة القانون والعدالة والإنصاف والإضرار بالمصالح العامة. وحتى يؤدي هذا الديوان الدور المحدد له لا بد من أن يتمتع بالاستقلالية عن الجهاز التنفيذي، إذ تتمثل المهمة الأساسية لهذا الديوان في الرقابة على سلوك الجهاز التنفيذي نفسه. ومن أجل ضمان استقلالية الديوان واعتباره عمودًا من أعمدة النزاهة فإنه لا بد من توافر بعض الضمانات التي تدعم استقلاليته. من ذلك مبدأ التنافي مع المهمات الأخرى وخاصة المهمات الانتخابية في البرلمان أو المجالس المحلية، حتى لا يكون الديوان معرضًا للضغوط السياسية أو المادية، إضافة إلى مبدأ عدم القابلية للعزل، حتى لا يكون عرضة للضغط من طرف سلطة التعيين، وأيضًا عدم إمكانية تجديد فترة التعيين، إذا كانت محدودة، وذلك كي لا يكون معرضًا للإغراءات من أجل الحصول على المنصب مرة ثانية.
6-   الهيئات المستقلة لمكافحة الفساد: تمثل هيئات الرقابة الإدارية والمالية أو دواوين المحاسبة وهيئات تدقيق الحسابات وهيئات مكافحة الكسب غير المشروع ركائز مهمة في نظام النزاهة الوطني، شرط أن تتمتع بالاستقلالية والمصداقية وأن تعمل وفق صلاحيات واضحة ومحددة بالقانون، وأن تبني استراتيجيات وطنية شاملة ودائمة لمكافحة الفساد. ويتطلب نجاح الهيئات المستقلة لمكافحة الفساد كعمود من أعمدة النزاهة وجود قانون ينشىء الهيئة بوصفها هيئة دائمة ويعطيها صلاحيات مساءلة جميع الأشخاص بمن فيه السياسيون ومسؤولو الأجهزة الأمنية، ووجود تشريعات مساندة مثل قانون الكسب غير المشروع، وقانون الذمة المالية. ولذلك لا بد من اختيار الأشخاص ذوي المصداقية والنزاهة لتولي مناصب قيادية في مثل هذه الهيئة، ومنع إقالتهم إلا بشروط مقيدة مثل سوء السلوك أو عدم القدرة على القيام بالوظيفة، وتوفر الإرادة السياسية لدى هذه القيادات والمسؤولين بضرورة مواجهة الفساد، وتوفير المصادر البشرية والحاجات والأموال اللازمة لعملهم في إطار موازنة الدولة ومن خزينتها.
7-   مؤسسات الخدمة العامة أو المرافق العامة: وهي مجموع المؤسسات العامة التي تقوم على تحقيق منفعة عامة، وقد تمارس نشاطًا إداريًا أو اقتصاديًا أو تجاريًا، وتمثل المرافق العامة بيئة مناسبة لبروز مظاهر الفساد، من حيث الحصول على الرشوة أو غير ذلك من هذه المظاهر، الأمر الذي يتطلب اتخاذ مجموعة من التدابير الضرورية لضمان عدم بروز الفساد في المرافق العامة. ومن الأمثلة على هذه التدابير إجراء الرقابة المسبقة واللاحقة للأعمال الإدارية داخل المرفق العام، وتحديد دقيق لواجبات الموظف العام بحسب الأعمال المقدمة وضمان أجور متناسبة معها في المجالات المهنية المختلفة، إضافة إلى ضمان سلم ترقية شفاف، وضمان اختيار جيد للموظفين عند التشغيل بناء على المؤهلات العلمية المناسبة والسلوك الشخصي الجيد، والعمل على تحليل جودة الأداء أو جودة الخدمة المقدمة للجمهور.
8-   الحكم المحلي: تمثل هيئات الحكم المحلي مؤسسات مهمة في النظام السياسي، وتتوقف طبيعة الدور الذي تقوم به على مدى ما تتمتع به من استقلالية عن السلطة المركزية، وعلى أساليب تشكيلها تعيينًا أم انتخابًا. ونظرًا إلى العلاقة المباشرة بين هذه الهيئات والجمهور، من خلال القدر الكبير للخدمات التي تقدمها، فإن معايير الكفاءة والشفافية والنزاهة ينبغي أن تكون معايير أساسية في أداء هذه المؤسسات لمهماتها. ولكي يكون الحكم المحلي عمودًا من أعمدة النزاهة لا بد من وضوح بيانات الذمة المالية لرئيس وأعضاء المجلس وكبار الموظفين، ويتطلب ذلك إيجاد نظام واضح وشفاف في كل ما يتعلق بنظام بالمشتريات والتوظيف واتباع سياسة الباب المفتوح في كل ما يتعلق بالأمور المهمة، وتشجيع المجموعات والمؤسسات المحلية للمشاركة في تطوير السياسات والبرامج التي تتعلق بالخدمات التي يقدمها الحكم المحلي.
9-   وسائل الإعلام: تحمل وسائل الإعلام على عاتقها مسؤوليات كبيرة في الكشف عن مظاهر الفساد. وحتى تقوم هذه الوسائل بذلك لا بد من أن تكون حرة ومستقلة وغير خاضعة لسيطرة الدولة أو ملكًا لها، وأن تتاح لها فرصة الاطلاع على المعلومات من مصادرها الرسمية، وألا تخضع للقوانين المقيدة كتلك التي تنص على عقوبة السجن بحق الصحافيين بحجة القدح. كما يتطلب ذلك في المقابل أن يكون الإعلام مسؤولا ويخضع لرقابة هيئات إعلامية مستقلة. ولكي يستطيع الإعلام أن يمارس دوره ويكون عمودًا من أعمدة النزاهة فإنه لا بد من فك الارتباط بين الصحافة والحكومة بتضمين القوانين المدنية مواد تمنع الحكومات من التملك في الصحافة، وإقرار قوانين تشجع المنافسة وتمنع الاحتكار في السوق الإعلامية، وتأسيس نقابات وتجمعات تدافع عن الصحافيين، والقيام بحملات توعية للمجتمع المدني بضرورة حرية الصحافة، وبالتالي تحالف الصحافة والمجتمع المدني لخوض معركة حرية الصحافة، وكذلك حث القطاع الخاص على إصدار الصحف لكونها خط دفاع مهم ضد الفساد.
10-                       المجتمع المدني: تعد مشاركة مؤسسات المجتمع المدني أمرًا حاسمًا لنجاح أية استراتيجية لمكافحة الفساد وبناء نظام للنزاهة الوطني ودفع الجمهور إلى المشاركة في جهود مواجهة الفساد. إلا أنه يجب الأخذ في الحسبان ما تعانيه هذه المؤسسات من مشكلات تتعلق بالتمويل وسعي البعض منها للحصول على الأموال من وكالات التنمية الخارجية ومن غياب الإجراءات الشفافة وآليات المساءلة والمحاسبة في عمل البعض الآخر منها.
11-                       القطاع الخاص: يؤدي القطاع الخاص دورًا متزايدًا في الحياة الاقتصادية والنظام السياسي، وذلك في ضوء برامج التصحيح الاقتصادي، كالتي يشهدها عدد من الأقطار العربية، وفي ظل عمليات الخصخصة التي تخضع المشاريع والخدمات العامة لها في هذه الأقطار، الأمر الذي يوفر بيئة ملائمة لبروز بعض مظاهر الفساد، وهو ما يقتضي بالتالي تعزيز الرقابة على هذا القطاع وتعزيز مفاهيم النزاهة والشفافية والمساءلة فيه. من جهة أخرى، فإن القطاع الخاص مهيأ لتأدية دور مهم في نظام النزاهة الوطني، إذ أن سعي هذا القطاع لتحقيق الأرباح يدفع الإدارات لتنفيذ استراتيجيات داخلية لمكافحة الفساد، كما أن من مصلحة هذا القطاع المشاركة في آليات مكافحة الفساد في المؤسسات العامة الأمر الذي يوفر الجهد والمال في الحصول على الموافقة المطلوبة للمشاريع التي يقيمها. ونظرًا لأهمية هذا القطاع ودوره في التأثير على مكافحة الفساد، فإنه تجدر الإشارة إلى بعض المؤشرات لتقويم القطاع الخاص بوصفه عمودًا من أعمدة النزاهة، والتي تعرف بالمبادئ
الخمسة الأساسية لحاكمية الشركات:
• حماية حقوق المساهمين،
• المعاملة العادلة والمتكافئة لجميع صنوف المساهمين،
• الاعتراف بحقوق أصحاب المصالح وتشجيع التعاون معهم،
• الإفصاح والشفافية عن المعلومات المتعلقة بنشاط الشركة ومسيرتها،
• مسؤوليات مجلس الإدارة في التوجيه والرقابة.
12-                       الممثلون الدوليون: الفساد ليس ظاهرة محلية لصيقة بالأنظمة السياسية أو بالدول فقط، فقد يكون الفساد عابرًا للحدود ومصدره فاعلون دوليون مثل الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، إذ تمارس بعض الشركات العالمية الكبرى الكثير من السلوكيات التي تخلق مبررًا للفساد الخارجي كاللجوء إلى الضغط على الحكومات من أجل فتح الأسواق أمام منتجاتها أو دفع الرشاوى للحصول على عقود الامتياز لاستغلال الموارد الطبيعية، وغالبًا ما يكون لهؤلاء شركاء محليون ينبغي التركيز عليهم. وتبرز في هذا المجال أيضًا جرائم تبييض الأموال التي قد يشترك فيها أكثر من طرف وفي عدة بلدان. ولمواجهة هذه السلوكيات لجأت الكثير من الدول والمنظمات الدولية إلى إبرام اتفاقيات دولية لمكافحة الفساد، مثل اتفاقية الأمريكيتين لمكافحة الفساد، واتفاقية المجلس الأوروبي للقانون الجنائي في شأن الفساد. ولكي يكون الممثلون الدوليون عمودًا من أعمدة النزاهة لا بد من العمل على عدة أمور، منها: الكفاح ضد تبييض الأموال، والكفاح ضد رشوة الموظفين العامين الأجانب في الصفقات التجارية الدولية، وتوطين وإعادة الأموال المتحصل عليها بواسطة الرشوة، وتيسير تأمينات القروض الموجهة للتصدير.(المركز اللبناني للدراسات، ب. ت ؛ بوب، 2000)
 
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق